قال الإمام ابن القيم في (( زاد المعاد )) : الطاعون هو عند أهل الطب : ورم رديء يخرج معه تلهب شديد مؤلم جداً يتجاوز المقدار في ذلك ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود ، أو أخضر ، أو أكمد ، ويؤول أمره إلى التقرح سريعاً ، وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع : في الإبط ، وخلف الأذن، والأرنبة ، وفي اللحوم الرخوة .
وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال : (( غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط )) .
قال الأطباء : إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن ، وخلف الأذن والأرنبة ، وكان من جنس فاسد سمي طاعوناً ، وسببه : دم رديء مائل إلى العفونة والفساد ، مستحيل إلى جوهر سمِّي ، يفسد العضو ويغير ما يلين ، وربما رشح دماً أو صديداً ، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والخفقات والغشي .
وهذا الاسم وإن كان يعم كل ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة ، حتى يصير لذلك قتالاً ، فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي ؛ لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع ، وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن ؛ لقربهما من الأعضاء ؛ التي هي رأس ، وأسلمه الأحمر ، ثم الأصفر ؛ والذي إلى السواد ، فلا يفلت منه أحد .
... وهذه القروح والأورام والجراحات ، هي آثار الطاعون وليست نفسه ، ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون .
والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور :
أحدهما : هذا الأثر الظاهر ، وهو الذي ذكره الأطباء .
والثاني : الموت الحادث عنه ، وهو المراد في الحديث الصحيح : (( أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل ) ، وورد فيه أنه (( وخز الجن )) .
إن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها ، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها ، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفاً في أجسام بني آدم عند حدوث الوباءوفساد الهواء ؛ كما يجعل لها تصرفاً عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ، ولا سيما عند هيجان الدم ، والمرة السوداء ، وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن ما لا تتمكن من غيره ، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر ، والدعاء ، والابتهال ، والتضرع ، والصدقة ، وقراءة القرآن ، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ، ويبطل شرها ، ويدفع تأثيرها ، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله ، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيراً عظيماً في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة ، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ، ولا يكاد ينخرم ، فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه ، وهي له من أنفع الدواء ، وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره ، أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها ، فلا يشعر بها ، ولا يريدها ، ليقضي الله فيه أمراً كان مفعولاً